د. محمد بشارى….(«دار الإفتاء في عامها الـ130… ونظير يقود عبورًا رصينًا إلى فقه العصر))

 

 

 

 

قال الاستاذ الدكتور محمد بشاري الأمين العام للمجلس العالمى للمجتمعات المسلمة فى مقال له …..

بعد مئةٍ وثلاثين عامًا على تأسيس دار الإفتاء المصرية، يبدو المشهد الديني وكأنه يعيد اكتشاف معنى «الفتوى» في زمن شديد الاضطراب، تتداخل فيه العولمة مع الذكاء الاصطناعي، والحداثة التقنية مع التحولات الاجتماعية، والطب الحيوي مع قضايا الأسرة، مما يجعل الحاجة إلى مرجعية راسخة لا تقلّ ضرورة عن حاجتنا إلى الثوابت نفسها. وهنا تتقدم دار الإفتاء، في زمن الدكتور محمد نظير عيّاد، بوصفها نموذجًا مكتمل الأركان في الجمع بين أصالة المدرسة الأزهريّة القديمة، ومنهجية الاجتهاد المقاصدي، وذكاء قراءة الواقع بما فيه من تعقيد واشتباك.

فالفتيا—كما قال القرافي—«إخبار عن الله تعالى، والمفتي كالمترجم»، وهي بهذا ليست حزمة آراء، ولا تعليقات ظرفية، بل منزلةٌ شريفة في سُلَّم الديانة، لأنها خليفة للرسول ﷺ في وظيفة البيان. وقد أصاب أسلاف العلماء حين قالوا: لا يفتى الناس إلا ثلاثة: أمير، أو مأمور، أو متكلّف، للتنبيه إلى خطورة التصدّر بلا أهلية، وما يجرّه ذلك من فساد في الدين والدنيا.

وقد اعتبر القرافي أن هذه المنزلة العالية تجعل الفتوى أوسع من الحكم، لأن الحكم قد ينغلق على باب القضاء، بينما تمتد الفتيا إلى الاعتقاد والعبادات والمعاملات والعقود والأحوال الشخصية وسائر التكاليف الخمسة من وجوب وندب وإباحة وكراهة وتحريم. ولذلك قال رحمه الله في الفروق: «لاعتبار هذا الشرط يحرم على أكثر الناس الفتوى»، مشيرًا إلى أن الجهل بالمناط يفسد كفساد دواء الطبيب الجاهل، بل أشد خطرًا. وهذا المعنى يتأكد اليوم، حيث تتزاحم الفتاوى المتسرعة التي تتأرجح بين غلوٍّ يتجاوز النصّ وروحِه، وتساهلٍ يهدم المقاصد باسم التيسير.

إن هذا الاضطراب الذي يشهده العالم الإسلامي اليوم، مع ما ولّده من فتاوى التكفير واستباحة الدماء، يؤكد صحة ما قاله ابن الجوزي: «ويلزم ولي الأمر منع المفتين الجُهّال كما يُمنع الطبيب الجاهل من معالجة المرضى»، إذ الفتوى—متى ضلّت—أمكن أن تُهلك الأمم كما تهلك الأفراد. ومن هنا برز الدور المحوري للدولة في تنظيم الإفتاء وضبطه؛ فلا يُترك سلاح الفتوى في يد من يسيء استعماله. وهذا عين ما التزمته الإمارات حين أسست «مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي» ليكون سياجًا يحفظ الدين والدولة والمجتمع من الفتاوى المارقة، ويعيد للمؤسسة الدينية أهلية القيادة العلمية.

 

ولئن كان المفتي في الماضي يُسأل عن مسائل من جنس ما عرفه السلف، فإن المفتي المعاصر يواجه نوازل لم يعرفها الفقهاء من قبل: عقود مالية هجينة، معاملات رقمية، بنوك حيوية، ذكاء اصطناعي، فضاء رقمي، تحولات في الأسرة، وأشكال جديدة من الحاجة الإنسانية. وهذا يقتضي ما قاله ابن القيم في إعلام الموقعين:

«لا يتمكن المفتي من الفتوى بالحق إلا بنوعين من الفقه: فهم الواقع، وفهم الواجب في الواقع».

فالفهم الأول يقتضي قراءة تركيب الواقع، لا ظاهرَه فقط، وفهمه ليس قراءة اللحظة الحاضرة، بل الماضي الذي شكّله والمستقبل الذي يتجه نحوه. أما الفهم الثاني فهو استخراج حكم الله من النصوص عبر مناهج الدلالات، ثم تنزيل الحكم على المحلّ التنزيل الصحيح. وهذا هو معنى «تحقيق المناط»، الركن الأكبر في الاجتهاد التطبيقي، وهو ما سأله الشاطبي حين قال:

«النظر في المآلات معتبر مقصود شرعًا».

وقد أحسن الشاطبي حين ميّز بين الاجتهاد النظري الذي قد ينقطع، والاجتهاد التطبيقي الذي لا ينقطع إلا بانقطاع التكليف، لأن حياة الناس تتجدد، وصور الوقائع تتنوع، ولا يمكن تجميد الفقه لأن الواقع نفسه لا يتجمّد.

 

 

وفي هذا السياق، تبرز دار الإفتاء اليوم بوصفها تجسيدًا لمقصدٍ مركزي في الفقه الإسلامي: استقبال النوازل بعقل مركب يزاوج بين النصّ و«العقل الاجتماعي». فالفقيه الحقيقي—كما ذكر الغزالي—لا يكتفي بالميزان اللغوي أو العرفي أو النقلي، بل يستخدم الموازين الخمسة لتحقيق المناط: اللغوية، والعرفية، والحسية، والعقلية، والطبيعية، ثم يلحق بها ميزان المصلحة والمفسدة والغربال المقاصدي. وهذا بالضبط ما جعل المدرسة المقاصدية في مصر أكثر قدرة على التعامل مع تعقيد الواقع، من عهد محمد عبده إلى علي جمعة ومرورًا بالمفتيين السابقين.

ويأتي الدكتور محمد نظير في هذا الامتداد الأزهري فيضيف إلى المنهج أصالةً أخرى: وصلُ العلوم الشرعية بالعلوم الاجتماعية وصلًا لا يضعف النص ولا يعطّل المقاصد، بل يعيد الاعتبار لمعنى قول القرافي: «إنما الشريعة عدل كلها ورحمة كلها ومصلحة كلها». فقد برع الدكتور نظير في تحرير مسائل الفتوى المعاصرة على ضوء هذه الأصول: يدقّق في مناطات العقود، يربط الحكم بآثاره، يعيد ترتيب أثر الضرورة والحاجة، ويراجع المآلات، فلا يُفتي على ظاهر الصورة، بل على حقيقتها ومآلها، وهذا هو فقه القرافي في أجلى صوره.

 

ولذلك، فإن الاحتفال بمرور 130 سنة ليس وقوفًا عند التاريخ، بل إعلانًا بأن الفتوى دخلت طورًا جديدًا: طور «العقل المؤسسي» الذي يحفظ أمانة البيان ويحمل الناس إلى الوسط الذي وصفه الشاطبي بقوله:

«المفتي البالغ الذروة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط، لا يشدد فينفر، ولا يرخّص فيفسد».

فالوسطية هنا ليست شعارًا، بل علمٌ وصنعة، ميزانٌ بين النص والواقع، بين الكلي والجزئي، بين العزيمة والرخصة، بين الضرورة والحاجة، بين المصالح والمفاسد. ومن يقرأ فتاوى الدار في عهد الدكتور نظير يجد هذا الميزان حاضرًا: فتاوى لا تسقط النصوص على الواقع إلقاءً، ولا تحاكم الواقع إلى النصوص بصرامة عمياء، بل تبني جسرًا أصوليًا هادئًا، تتحرك فيه الفتوى بوعيٍ مقاصدي يستوعب الإنسان وظروفه وحاجاته.

بهذا، تتحول دار الإفتاء المصرية إلى مدرسة فقهية لا تكتفي بحفظ التراث، بل تفكّره وتعيد إنتاجه. مدرسة تجمع بين حِكمة السلف ونباهة الخلف، بين أصول القرافي ومقاصد الشاطبي وأدوات ابن القيم، وبين عقلٍ أزهري يقرأ النص، وعقلٍ اجتماعي يقرأ الإنسان.

ويبقى السؤال الذي يجب أن يفتح أفق المستقبل:
كيف يمكن للمؤسسات الإفتائية في العالم الإسلامي أن تبني نموذجًا مماثلًا، يستوعب تعقيد الذكاء الاصطناعي، وتحوّلات الاجتماع، وتغير الاقتصاد، دون أن تفقد رسوخها الأصولي؟
وهل يمكن للعقل الفقهي أن يستمر في أداء وظيفته النبوية في البيان في زمن تتغير فيه معايير الإدراك ذاتها؟
ومتى نملك القدرة على أن نُنشئ «علم تحقيق المناط المعاصر» القادر على ضبط الفتوى كما ضبط الأسلاف فقه العلل والمقاصد؟

هذه الأسئلة ليست خاتمة، بل بداية مرحلة جديدة من الاجتهاد الذي لا ينقطع ما دامت الحياة.

زر الذهاب إلى الأعلى