ندوة فكرية في أبوظبي تكشف ملامح حكمة الدولة في النموذجين المغربي والإماراتي

د..البشارى....صبر البناء، وتدرج الإصلاح، والالتفات إلى المستقبل بقدر الالتفات إلى الحاضر، كلها عناصر تفسر قدرة الامارات والمغرب على الاستمرار في بناء مشروع وطني واضح المعالم.

 

كتب…..نزار سلامة

 

شهد مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في أبوظبي لقاءً فكريًا نوعيًا احتُفي فيه بكتاب «الحكمة»، وهو العمل الذي يتناول بالتحليل مسارات قيادة الدولة في كلٍّ من المغرب والإمارات، عبر قراءة معمّقة لخيارات الحكم، ورؤية التنمية، وبناء الإنسان. الندوة، التي جمعت دبلوماسيين وباحثين وشخصيات أكاديمية، تحولت إلى لحظة تأمل جماعي في فلسفة القيادة وأخلاقيات الدولة في زمن عربي يتغير بوتيرة متسارعة…

 

منذ افتتاح الجلسة، بدا واضحًا أن موضوع الكتاب أوسع من مجرد سرد لسيرة قائدين؛ فقد قدّمت كلمات المشاركين رؤية متقاطعة تؤكد أن التجربتين المغربية والإماراتية تمثلان اتجاهًا عربيًا جديدًا في إدارة الدولة، يقوم على الجمع بين وضوح الرؤية وعمق الإصلاح، وبين الاستقرار السياسي والقدرة على استشراف المستقبل…

 

كانت الكلمة الأولى للسفير أحمد التازي، الذي صاغ مدخلًا إنسانيًا لافتًا لقراءة الكتاب، مُبرزًا أن «الحكمة» ليس سيرة فكرية فحسب، بل شهادة تاريخية على نمط من القيادة يُعيد تعريف دور الدولة في محيط عربي مضطرب. وأشار التازي إلى أن علاقة البلدين نادرة في سياقها العربي، إذ تقوم على تراكم تاريخي طويل بدأ منذ عهد الحسن الثاني والشيخ زايد، وتواصل اليوم بروح جديدة تعيد بناء الشراكة على قاعدة القيم المشتركة ودعم السيادة الوطنية والتنمية المستدامة. ..

 

وفي تحليله، اعتبر السفير أن الكتاب يقترب من تقديم نموذج عربي قابل للتعميم، لقدرته على قراءة اللحظة التاريخية وفهم التحولات التي يعيشها العالم. وذكّر بأن انعقاد الندوة بالتزامن مع احتفالات المغرب بعيد الاستقلال والمسيرة الخضراء يمنح النقاش بعدًا رمزيًا يعكس رسوخ الروابط بين البلدين.

 

 

 

أما مداخلة الدكتور محمد بن هويدن فجاءت بصياغة أكاديمية واضحة تؤسس لرؤية مقارنة بين التجربتين. فقد اعتبر أن الكتاب يقدم مادة علمية يمكن أن تستند إليها دراسات السياسة المقارنة، لأن المغرب والإمارات نجحا في صياغة نموذج تنموي يُعلي من قيمة الإنسان ويجعل من الاستثمار في التعليم والاقتصاد والمعرفة أساسًا لبناء المستقبل. ورأى بن هويدن أن الانسجام السياسي بين البلدين ليس تحالفًا تقنيًا، بل تقارب في قراءة التحديات الدولية والإقليمية؛ وأن هذا التوافق أنتج محورًا عربيًا مستقرًا يمكن أن يشكل رافعة للتوازن في المنطقة. وأكد أن الكتاب يبرز كيف استطاع القائدان إدارة الزمن السياسي بمنطق استراتيجي طويل المدى، وهو ما يفسر نجاح البلدين في تجاوز أزمات عالمية معقدة..

 

وجاءت كلمة الدكتور محمد بشاري لتفتح أفقًا تحليليًا مختلفًا؛ إذ قدّم قراءة فلسفية في معنى الحكمة كفلسفة دولة لا كصفة شخصية. واعتبر أن الحكمة – كما يعرضها الكتاب – ليست مجرد طريقة في اتخاذ القرار، بل منظومة تفكير تؤطر بناء الدولة الحديثة، وتجمع بين الأخلاق السياسية والوعي بالتحولات العالمية وقدرة المؤسسات على تحويل الأفكار إلى سياسات واقعية. وأبرز بشاري أن النموذجين المغربي والإماراتي ينجحان في تجاوز ثلاث مثالب تعاني منها العديد من التجارب: الشعبوية، التي تختزل السياسة في الانفعال؛ والسلطوية التقليدية، التي تنغلق على نفسها؛ والفوضى الثورية، التي تهدم دون أن تقدم بديلًا. وذهب إلى أن الحكمة تتجلى في بنية مؤسسية قادرة على صنع الاستقرار وتوليد التنمية وتحصين المجتمع عبر التعليم والاقتصاد ومشروع الإنسان..

 

وتوسّع بشاري في إضاءة البعد الاستشرافي لدى قائدي البلدين، معتبرًا أن صبر البناء، وتدرج الإصلاح، والالتفات إلى المستقبل بقدر الالتفات إلى الحاضر، كلها عناصر تفسر قدرة البلدين على الاستمرار في بناء مشروع وطني واضح المعالم. فالحكمة هنا ليست فكرة بل هندسة دولة تتراكم عبر الزمن.

 

 

وفي ختام الندوة، قدّمت الدكتورة مريم الكلباني قراءة بزاوية حضارية، ركزت فيها على الأبعاد الثقافية والتنموية في العلاقات بين المغرب والإمارات..

 

وأوضحت أن ما يجمع البلدين ليس فقط مصالح سياسية، بل تصور مشترك لدور الدولة كفاعل في النهضة الثقافية وتشييد فضاءات المعرفة، وهو ما ينعكس في التعاون بين الجامعات ومراكز البحث، وفي المشاريع التي تهدف إلى نشر قيم الاعتدال والانفتاح. وأشارت إلى أن الكتاب يقدم صورة نادرة لشراكة عربية استطاعت أن تنتقل من الرمزية إلى الفعل التاريخي، وأن تشكل إحدى التجارب الأكثر توازنًا في الساحة الإقليمية.

وبانتهاء أعمال الندوة، بدا واضحًا أن كتاب «الحكمة» لم يُقرأ باعتباره مؤلفًا نظريًا، بل باعتباره مفتاحًا لفهم مسارات عربية صاعدة. فقد أعاد الحضور التأكيد على أن التجربتين المغربية والإماراتية لا تشكلان حالة منفصلة، بل مسارًا عربيًا جديدًا ينهض على الرؤية والاستقرار والتنمية والإنسان. وهي رسالة تبدو اليوم أكثر إلحاحًا في زمن تتشابك فيه الأزمات وتبحث فيه المنطقة عن نماذج قادرة على بناء المستقبل لا على الاكتفاء بشرحه.

زر الذهاب إلى الأعلى