إصدار فكري جديد للدكتور محمد بشاري يرصد تحوّل السلفية من التقليدية إلى الراديكالية: »تحوّل المسارات السلفية: بين التقليدية والراديكالية..

سردية العنف المشروع.. من الدعوة إلى التمكين السياسي«

 

 

 

كتب….نزار سلامة

 

يأتي كتاب »تحوّل المسارات السلفية: بين التقليدية والراديكالية.. سردية العنف المشروع.. من الدعوة إلى التمكين السياسي« ، الصادر عن مكتبة مدبولي للنشر والتوزيع / ديسمبر 2025، في لحظة فكرية وسياسية دقيقة، لا تشهد فقط تراجعًا صاخبًا لبعض تيارات الإسلام السياسي، بل تشهد في العمق تحوّلًا هادئًا في خطابها ووظائفها وأدوات اشتغالها داخل المجتمع. ومن هنا تتبدّى أهمية العمل؛ فهو لا ينتمي إلى أدبيات الدفاع عن السلفية ولا إلى خطاب الإدانة العقدية أو الفقهية، بل يختار مسارًا ثالثًا أكثر تعقيدًا: تفكيك التحوّل بدل محاكمة الهوية، والاشتغال على المسار بدل الارتهان لتعريفات جامدة…

 

 

د.محمد بشارى

ينقل المؤلف النقاش من سؤال: ما السلفية؟ إلى سؤال أكثر إرباكًا: كيف ولماذا تغيّرت السلفية؟ وكيف انتقلت، في سياقات تاريخية وسياسية محددة، من ثقافة دينية تميل إلى الانكفاء والطاعة، إلى فاعل سياسي متعدّد الوجوه، تتداخل فيه الدعوة بالحزب، والسلم بالعنف، والبراغماتية بالراديكالية. الفرضية الضمنية التي يقوم عليها الكتاب واضحة: السلفية لم تعد بنية عقدية مغلقة، بل تحوّلت إلى حقل سياسي–اجتماعي متشظٍ، تتحكم في حركته التحولات الجيوسياسية وأزمات الدولة الوطنية أكثر مما تضبطه المرجعيات النصية الصلبة..

 

يعتمد الكتاب مقاربة تاريخية تفسيرية، لا وصفية. فاللحظة المفصلية التي يؤسس عليها تحليله هي أواخر سبعينيات القرن العشرين، وبالأخص عام 1979، بوصفه عامًا مفصليًا أعاد رسم العلاقة بين الدين والسياسة في العالم الإسلامي. الثورة الإيرانية، واقتحام الحرم المكي، واتفاقية كامب ديفيد، ثم الغزو السوفييتي لأفغانستان، تُقرأ هنا لا كأحداث منفصلة، بل كسلسلة متشابكة كسرت التصورات التقليدية حول حدود الفعل الديني. غير أن الجهاد الأفغاني يحتل موقعًا مركزيًا في التحليل، بوصفه المختبر الأول لتحويل العنف من استثناء اضطراري إلى أداة تغيير مشروعة، عابرة للحدود، ومسنودة بسردية دينية–سياسية جديدة…

 

 

 

يتتبع المؤلف كيف أسهمت عودة “الأفغان العرب” في نقل الخبرة القتالية إلى الداخل الوطني، وكيف دخلت السلفية – لأول مرة على نطاق واسع – في مواجهة مباشرة مع الدولة، بما أفضى إلى توترات عقدية لم تُحل نظريًا، بل جرى الالتفاف عليها عبر تأويلات سياسية للنصوص، واستدعاء مفاهيم مثل الحاكمية والولاء والبراء. وفي هذا السياق، يبرز الكتاب كيف أن السلفية لم تكن دائمًا نقيض الدولة، بل كانت أحيانًا نتاج صراعاتها الداخلية أو أداة من أدواتها في ضبط الحقل الديني.
في بعده المفاهيمي، يتعامل الكتاب مع “السلفية” لا بوصفها مصطلحًا لغويًا أو توصيفًا مذهبيًا، بل بوصفها رأسمالًا سياسيًا قابلًا للتوظيف المتعدد. فالغموض الذي لفّ تعريف السلفية لم يكن خللًا عرضيًا، بل تحوّل مع الزمن إلى مصدر قوة، أتاح لها أداء وظائف متناقضة: دعوية في زمن الاستقرار، احتجاجية في لحظات الغضب، حزبية في فترات الانفتاح، وجهادية في سياقات الفوضى. بهذا المعنى، لا يحدّد المفهوم السلوك، بل يُعاد تأويله لخدمة الغاية السياسية.
ويكتسب تحليل السلفية الحركية مكانة مركزية في الكتاب. فهي، كما يبيّن المؤلف، حالة هجينة نشأت في الفراغ بين السلفية العلمية والسلفية الجهادية، واستعارت من جماعة الإخوان المسلمين أدوات التنظيم والعمل العام. هذا التكوين الهجين منحها قدرة عالية على التكيّف، لكنه حمّلها في الوقت نفسه تناقضات داخلية بنيوية، ظهرت بوضوح عند دخولها المجال السياسي، خاصة خلال الربيع العربي.
يتعامل الكتاب مع الربيع العربي بوصفه اختبارًا كاشفًا لا لحظة انتصار. فقد أربك السلفية العلمية، وكشف محدودية السردية الجهادية، ووضع السلفية الحركية أمام مسؤولية القرار السياسي. ويبرز المؤلف أن قبول هذه الأخيرة بالديمقراطية كان قبولًا إجرائيًا لا قيميًا؛ آلية وصول إلى السلطة لا منظومة قيم مؤسسة على التعدد والمواطنة وفصل الدعوي عن السياسي. ومن هنا جاءت هشاشة التجربة وسرعة تعثرها.
ويمنح الكتاب أهمية خاصة لمؤتمر إسطنبول 2012، بوصفه ذروة الطموح التنظيمي للسلفية الحركية ومحطة الانكشاف في آن. فمحاولة تأسيس تنظيم سلفي عالمي اصطدمت بصلابة الدولة الوطنية، وبالتناقض الداخلي داخل السلفية نفسها، وبفشل تجارب الإسلام السياسي في الحكم. لم يكن المؤتمر، في قراءة المؤلف، بداية صعود، بل إعلانًا غير مباشر عن حدود الإمكان..

 

 


بعد ذلك، ينتقل التحليل إلى مرحلة الخمود الاستراتيجي وإعادة التموضع الهادئ. فالتراجع هنا ليس انسحابًا نهائيًا، بل انتقالًا من السياسة الصريحة إلى العمل الثقافي والاجتماعي والدعوي والرقمي. وهذه المرحلة، كما يحذّر الكتاب، قد تكون أخطر من المواجهة المباشرة، لأنها تقوم على بناء التأثير طويل النفس، وإعادة إنتاج الخطاب بلغة أقل أيديولوجية وأكثر مرونة.
في تناوله للعلاقة بين السلفية الحركية وجماعة الإخوان المسلمين، يتجاوز المؤلف ثنائية التحالف والعداء، ليكشف عن تقاطعات ظرفية تحكمها الضرورة لا وحدة المشروع. فالإسلام السياسي، في مجمله، لم يعد كتلة واحدة، بل بات يعاني تفككًا داخليًا عميقًا، وهو تفكك يمنح الدولة هامشًا لإعادة بناء مشروعها، شريطة ألا تختزل المواجهة في البعد الأمني وحده.
الغائية العميقة للكتاب لا تكمن في التوثيق، بل في التحذير والاستشراف. إنه نص موجّه إلى العقل الاستراتيجي للدولة بقدر ما هو موجّه إلى الباحثين. يحذّر من الاطمئنان إلى سردية “الأفول النهائي”، ويؤكد أن أخطر لحظات الظواهر الأيديولوجية ليست لحظات الصدام، بل لحظات الكمون وإعادة التشكّل.
وفي ختام تحليله، لا يسأل الكتاب: كيف نهزم السلفية؟ بل يطرح سؤالًا أعمق: كيف نمنع الشروط التي تسمح بإعادة إنتاجها؟ هنا تتجلى قيمته العلمية والسياسية؛ فهو لا يقدّم وصفة جاهزة، بل يضع الدولة والمجتمع أمام اختبار طويل النفس، عنوانه بناء الوعي، وسدّ الفراغات الاجتماعية والثقافية، وإدارة العلاقة بين الدين والسياسة بمنطق وطني جامع.
بهذا المعنى، لا يكتب الدكتور محمد بشاري عن السلفية فقط، بل عن مستقبل الدولة الوطنية، وعن معركة المعنى في زمن ما بعد الصدام. وهو ما يجعل هذا الكتاب مرجعًا نوعيًا، لا لفهم السلفية وحدها، بل لفهم التحولات العميقة التي تعيد تشكيل المجال الديني والسياسي في العالم العربي…

 

 

سردية العنف المشروع.. من الدعوة إلى التمكين السياسي«
(صدر في ديسمبر 2025 عن مكتبة مدبولي للنشر والتوزي)

زر الذهاب إلى الأعلى