أحمد عبد المعطي حجازي: التجديد الشعري والنهضة الفكرية في الأدب العربي الحديث بقلم: الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي

كتب….نزار سلامة
تسعى هذه الدراسة إلى تتبع المسار الإبداعي والفكري للشاعر والأديب أحمد عبد المعطي حجازي، بوصفه أحد أبرز رواد حركة التجديد في الشعر العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين. لا تقتصر أهمية حجازي على كونه شاعراً مجدداً في الشكل والمضمون فحسب، بل تتعداها إلى كونه مثقفاً عضوياً، وناقداً، وصحفياً، وأستاذاً جامعياً، ساهم بعمق في تشكيل الخريطة الثقافية العربية. تعتمد الدراسة على سيرته الذاتية وإنتاجه الغزير (شعراً ونثراً) لتقييم أثره متعدد الأبعاد: الشعري والفكري والأكاديمي والسياسي. وتبين كيف مثلت تجربته جسراً بين التراث العربي والحداثة العالمية، وبين الالتزام الاجتماعي والبحث الجمالي، مما جعل منه علامة فارقة في تاريخ الأدب العربي الحديث….
المقدمة: حجازي .. سيرة متعددة الأبعاد
يُمثِّل أحمد عبد المعطي حجازي (وُلد 1935) نموذجاً فذاً للمثقف الشامل الذي لا يكتفي بصناعة النص الإبداعي، بل ينخرط في صناعة الوعي الثقافي والسياسي لمجتمعه. لم تنشأ أهميته من فراغ، بل هي حصيلة تراكمية لمسيرة طويلة اتسمت بالثراء والتنوع والجرأة. جاء حجازي من خلفية ثقافية مميزة (حفظ القرآن، دراسة دار المعلمين، ثم إكمال دراساته العليا في السوربون)، مما منحه أدوات فكرية مكنته من قراءة التراث واستيعاب المناهج النقدية الحديثة. هذه الورقة تهدف إلى تقديم قراءة شاملة لتجربته، تسلط الضوء على محطات سيرته الذاتية، وتحلل أثرها في تشكيل مشروعه الإبداعي، وتقيم إسهاماته في الحقول الشعرية والنقدية والثقافية والسياسية…
المسار الوظيفي والإبداعي: من الصحافة إلى الأكاديميا….
يكشف مسار حجازي المهني عن تشابك عضوي بين الممارسة الإبداعية والعمل الثقافي الميداني:
• الصحافة: بدأ عمله محرراً في مجلتي “صباح الخير” و”روز اليوسف”، ثم رئيساً للتحرير، مما أتاح له منبراً للتأثير المباشر في الرأي العام الثقافي ورفع سقف الحوار الأدبي.
• الأكاديميا: اضطراره للهجرة إلى فرنسا بعد فصلٍ سياسي حوَّل المسار إلى فرصة، حيث عمل أستاذاً للشعر العربي في جامعتي باريس والسوربون. هذا الموقع الأكاديمي جعله سفيراً للأدب العربي في أوروبا، وعمق من حسه النقدي ومنهجيته في قراءة النص.
• الإدارة الثقافية: توليه رئاسة تحرير مجلة “إبداع” وتأسيسه وإدارته لـ “بيت الشعر في مصر” جسدا رؤيته لضرورة وجود مؤسسات ثقافية راعية للإبداع.
الأثر الشعري: رائداً في حركة التجديد
يعد حجازي، مع رفيق دربه صلاح عبد الصبور، أحد أبرز من أسسوا لقصيدة التفعيلة في مصر، متجاوزين نموذج القصيدة العمودية التقليدية دون قطيعة كلية مع موسيقاها.
• التجديد الشكلي: تميزت قصيدته باستخدام بحر الرجز بشكل إبداعي، كما في ديوانه المبكر “مدينة بلا قلب” (1959)، مما أعطى إيقاعاً أقرب إلى نبض الحياة المدينية المعاصرة.
• التجديد الموضوعاتي: نقل الشعر من الغنائية الذاتية إلى فضاءات الهم الإنساني والاجتماعي والسياسي. ففي “مدينة بلا قلب” يصوّر مأساة الإنسان في المدينة الحديثة، وفي قصيدة “عودة فبراير” يستحضر شخصية الحسين بن علي كرمز للثورة والتضحية ضد الظلم، ممّا يربط الماضي بالحاضر بروابط أيديولوجية وجمالية…
• اللغة الشعرية: امتلك حجازي لغة خاصة، جمعت بين جزالة التراث ورشاقة الحديث، مع قدرة فائقة على تشييد الصور الشعرية المكثفة والمؤثرة، كما أشار الناقد صلاح فضل إلى “اكتناز” لغته في مرحلة المنفى.
الأثر الفكري والنقدي: تشريح الذات الشعرية والحركة الثقافية
لم يقتصر إنتاج حجازي على الشعر، بل قدّم مشروعاً نقدياً وفكرياً غنياً، يتجلى في مؤلفاته مثل “الشعر رفيقي” و”أسئلة الشعر” و”أحفاد شوقي”.
• الوعي النقدي بالذات: عكست كتبه النقدية تأملاً عميقاً في تجربته الشعرية الشخصية وفي حركة الشعر العربي الحديث برمتها، مقدماً رؤية للمبدع وهو يشرّح أدواته ويحلل سياقه.
• دراسات التأسيس: قدّم دراسات مهمة عن رواد النهضة مثل البارودي وشوقي وحافظ، وعن شعراء معاصرين، مساهماً في تشكيل تاريخ أدبي نقدي للشعر المصري.
• الحوار الفكري: خاض حجازي حوارات فكرية عميقة، أبرزها صراعه الأدبي مع العقاد الذي كان يرفض الشعر الحر، مما يظهر موقع حجازي في قلب المعارك الفكرية التي شكّلت حداثة الثقافة العربية.
الأثر الثقافي والسياسي: المثقف العضوي
كان حجازي مثقفاً ملتزماً، لم يفصل فنه عن قناعاته السياسية والاجتماعية:
• الالتزام السياسي: دفعه التزامه إلى التوقيع على بيانات معارضة لقمع النظام الساداتي للعمال، مما أدى إلى فصله من العمل والهجرة إلى باريس. جعلته هذه المواقف رمزاً للمقاومة الثقافية.
• التنوير الثقافي: من خلال مناصبه الصحفية والأكاديمية والإدارية، سعى إلى ترسيخ قيم التنوير والتحديث في الثقافة العربية، والدفاع عن حرية التعبير واستقلال المثقف.
• الحضور العالمي: مشاركته في مهرجانات شعرية من موسكو إلى واشنطن، وترجمة أعماله إلى لغات عالمية عديدة، جعلته وجهاً مشرفاً للأدب العربي على الخريطة الثقافية العالمية.
خلاصة الإرث المتعدد
يكشف التتبع الشامل لمسيرة أحمد عبد المعطي حجازي عن نموذج نادر للمثقف الشاعر الذي نجح في أن يكون فاعلاً أساسياً على جميع الجبهات: الإبداع الشعري، والتنظير النقدي، والفعل الثقافي المؤسسي، والموقف السياسي الأخلاقي. لقد كان جسراً حقيقياً بين الأصالة والمعاصرة، وبين المحلي والعالمي. لم يقدم حجازي شعراً جميلاً فحسب، بل قدّم رؤية للعالم، وشارك في صناعة ذاكرة ثقافية عربية حديثة. تبقى تجربته منارة للدارسين ومثالاً يحتذى للمثقف العضوي الذي يضع فنه ووعيه في خدمة قيم الحرية والجمال والإنسان.
التحولات الجمالية والفكرية في شعر أحمد عبد المعطي حجازي: دراسة مقارنة في ديوان ‘مرثية للعمر الجميل’، ‘كائنات مملكة الليل’، و’أشجار الأسمنت’
الملخص
تتناول هذه الدراسة التحولات الجمالية والفكرية في تجربة الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي من خلال تحليل مقارن لثلاثة من دواوينه: مرثية للعمر الجميل، كائنات مملكة الليل، وأشجار الأسمنت. وتكشف القراءة النقدية عن تطور في الرؤية الشعرية من التأمل الوجودي إلى التوتر النفسي ثم إلى الاحتجاج الاجتماعي، مما يعكس تفاعلًا عميقًا بين الذات والواقع، وبين الجمالي والسياسي. تعتمد الدراسة على مناهج نقدية متعددة تشمل المقارنة، والسيمياء، والنقد الثقافي، وتبرز كيف يتحول الشعر لدى حجازي إلى خطاب مقاوم، يعيد الاعتبار للإنسان في مواجهة التشيؤ والاغتراب. وتخلص الدراسة إلى أن شعر حجازي يمثل نموذجًا عربيًا متفردًا في التعبير عن قلق المرحلة، ويستحق أن يُقرأ في سياق عالمي مقارن.
المقدمة
تُعد تجربة الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي من أبرز التجارب الشعرية في العالم العربي الحديث، حيث تميزت بقدرتها على المزج بين الجمالية الفنية والوعي الثقافي والسياسي. وقد شكلت دواوينه الثلاثة: مرثية للعمر الجميل، كائنات مملكة الليل، وأشجار الأسمنت، محطات مفصلية في تطور هذه التجربة، بما تعكسه من تحولات في الرؤية، والأسلوب، والانشغال الوجودي والاجتماعي.
تسعى هذه الدراسة إلى تقديم قراءة نقدية مقارنة لهذه الدواوين، من خلال تحليل بنياتها الجمالية، ورموزها الشعرية، وسياقاتها الفكرية والثقافية، بهدف الكشف عن ملامح التحول في خطاب حجازي الشعري، ومدى تأثيره في الحياة الأدبية والفكرية العربية.
الإطار النظري والمنهجي
أولًا: المنهج المقارن
تعتمد الدراسة على المنهج المقارن بوصفه أداة لتحليل الفروق والتقاطعات بين الدواوين الثلاثة، من حيث الموضوعات المركزية، البنية الفنية، والوظيفة الثقافية للنصوص. ويتيح هذا المنهج فهم تطور تجربة الشاعر عبر مراحل مختلفة، تربط بين الذات والواقع، وبين الجمالي والسياسي.
ثانيًا: المنهج السيميائي
يُستخدم المنهج السيميائي لتحليل الرموز الشعرية التي تتكرر في الدواوين، مثل “الزمن”، “الليل”، “المدينة”، “الطفولة”، و”الأسمنت”، بوصفها علامات دالة على تحولات في الوعي الشعري، وعلى علاقات معقدة بين الإنسان والمكان، وبين الذات والآخر.
ثالثًا: المنهج الثقافي والسوسيولوجي
تُقارب الدراسة النصوص من منظور ثقافي، يربطها بالسياقات الاجتماعية والسياسية التي صدرت فيها، ويكشف عن دور الشاعر كمثقف عضوي، يعبر عن قلق المرحلة، ويقاوم التشيؤ والاغتراب، ويعيد الاعتبار للذات الإنسانية في مواجهة التحولات القاسية.
أولًا: ديوان “مرثية للعمر الجميل” – بين الحنين والوعي التاريخي
1. السياق العام للديوان
صدر ديوان مرثية للعمر الجميل في مرحلة من النضج الشعري والفكري لدى أحمد عبد المعطي حجازي، حيث تتقاطع فيه التجربة الذاتية مع التحولات الكبرى في الواقع العربي. يمثل الديوان لحظة تأمل في الزمن، وفي الخسارات الشخصية والجمعية، ويعكس انكسار الحلم القومي، وتراجع الأمل في التغيير.
2. البنية الموضوعية
يتوزع الديوان بين قصائد تتأمل العمر، والطفولة، والذكريات، وأخرى ترثي الوطن، والمشروع الثقافي، والإنسان في لحظة اغترابه. يتكرر حضور مفردات مثل “العمر”، “المرآة”، “الطفل”، “الطريق”، وكلها تشير إلى الذات في تحولاتها، وإلى الوطن في لحظات انكساره.
يقول حجازي: “يمر العمر.. لا نملك إلا أن نراه يمر” هذه العبارة تختزل فلسفة الديوان: الحضور في الغياب، والوعي بالتحول، والقبول الموجع بانكسار الزمن الجميل.
3. البنية الفنية والجمالية
• اللغة الشعرية: تتسم بالصفاء والهدوء، لكنها مشحونة بالحزن النبيل. يستخدم الشاعر لغة يومية مشبعة بالرمزية، مما يمنح النصوص طابعًا تأمليًا عميقًا.
• الإيقاع: يعتمد على شعر التفعيلة، لكنه يدمج بين الموسيقى الداخلية والتكثيف الدلالي، مما يخلق توازنًا بين الشكل والمضمون.
• الصور الشعرية: تتنوع بين صور حسية (“النافذة التي نسيتها الشمس”) وصور رمزية (“الطفولة التي أغلقت أبوابها”)، وكلها تعكس فقدان البراءة والدهشة.
4. الرموز والدلالات
• الزمن: يُصور الزمن ككائن حي يتآكل ويترك الندوب، مما يمنح القصائد بعدًا وجوديًا.
• الطفولة: ترمز إلى البراءة المفقودة، وإلى الحلم الذي لم يتحقق.
• المرآة: ترمز إلى الذات في لحظة المواجهة، وإلى الوعي بالتحول والانكسار.
5. الأثر الثقافي والفكري
• فكريًا: يطرح الديوان أسئلة وجودية حول معنى العمر، والهوية، والذاكرة، مما يجعله نصًا تأمليًا يصلح للقراءة الفلسفية.
• أدبيًا: يمثل تطورًا في شعر التفعيلة، ويؤسس لمرحلة من الشعر التأملي الذي يجمع بين الذات والواقع.
• ثقافيًا وسياسيًا: يرثي حجازي “العمر الجميل” الذي قد يكون عمرًا وطنيًا، في إشارة إلى انكسارات المشروع القومي العربي، مما يمنح الديوان بعدًا سياسيًا غير مباشر.
يمثل ديوان مرثية للعمر الجميل لحظة مفصلية في تجربة حجازي، حيث ينتقل من الشعر الغنائي إلى الشعر التأملي، ومن الحلم إلى الوعي بالانكسار. إنه نص شعري عميق، يفتح أبوابًا على الذات والتاريخ، ويمنح القارئ فرصة للوقوف أمام مرآة الزمن العربي.
ثانيًا: ديوان “كائنات مملكة الليل” – الشعر بوصفه كشفًا للذات المظلمة
1. السياق العام للديوان
يأتي ديوان كائنات مملكة الليل في مرحلة من التوتر الداخلي والقلق الوجودي لدى أحمد عبد المعطي حجازي، حيث تتجه القصائد نحو استكشاف العوالم النفسية والهواجس الخفية التي تسكن الإنسان في لحظات العزلة والانكشاف. الليل هنا ليس مجرد زمن، بل فضاء رمزي تتجلى فيه الكائنات التي تمثل الرغبة، الخوف، التمرد، واللاوعي الجمعي.
2. البنية الموضوعية
يتوزع الديوان بين قصائد تستحضر الكوابيس، الأحلام، الأصوات الداخلية، وأخرى تتأمل في الذات بوصفها ساحة صراع بين النور والظلمة. تتكرر مفردات مثل “الليل”، “النافذة”، “الصوت”، “المدينة النائمة”، وكلها تشير إلى عالم داخلي مشحون بالتوتر والانكشاف.
يقول حجازي: “في الليل.. أسمع صوتي كما لم أسمعه من قبل” هذه العبارة تكشف عن مركزية الذات في لحظة المواجهة مع ما هو مكبوت أو مهمّش.
3. البنية الفنية والجمالية
• اللغة الشعرية: تتسم بالكثافة والاختزال، وتستخدم تراكيب غير مألوفة تخلق عوالم سريالية، مثل “المدينة التي تنام على جرح”، و”النافذة التي تبكي”.
• الإيقاع: يتراوح بين التفعيلة الحرة والنثر الشعري، مما يمنح النصوص مرونة تعبيرية تتناسب مع طبيعة الموضوعات النفسية.
• الصور الشعرية: تتجه نحو التعبيرية والرمزية، حيث تتحول الأشياء اليومية إلى علامات دالة على القلق والتمرد.
4. الرموز والدلالات
• الليل: يرمز إلى اللاوعي، إلى المسكوت عنه، إلى الفضاء الذي تنكشف فيه الذات.
• الكائنات: تمثل الهواجس، الرغبات، المخاوف، وهي ليست خارجية بل داخلية، مما يمنح الديوان طابعًا نفسيًا عميقًا.
• الصوت: يتحول إلى أداة كشف، حيث يصبح الإصغاء للذات فعلًا ثوريًا في وجه الصمت المفروض.
5. الأثر الثقافي والفكري
• فكريًا: يفتح الديوان بابًا على علم النفس، خاصة في استكشافه للهوية والهواجس، ويقارب مفاهيم فرويد ويونغ في تحليل الذات المظلمة.
• أدبيًا: يمزج بين الواقعية السحرية والتعبيرية، ويؤسس لنمط شعري داخلي يتجاوز الخطاب المباشر.
• ثقافيًا وسياسيًا: يعكس الديوان قلق المثقف العربي في مواجهة القمع، والاغتراب، والانفصال عن الذات الجمعية، مما يمنحه بعدًا سياسيًا غير مباشر لكنه عميق.
يمثل ديوان كائنات مملكة الليل انتقالًا من الشعر التأملي إلى الشعر النفسي، حيث تصبح الذات مركزًا للكون، ويصبح الليل فضاءً للكشف والمواجهة. إنه ديوان عن الأصوات التي لا تُسمع في النهار، وعن الكائنات التي تسكننا ولا نراها إلا حين نغلق أعيننا.
ثالثًا: ديوان “أشجار الأسمنت” – المدينة كفضاء للاغتراب والاحتجاج
1. السياق العام للديوان
يُعد ديوان أشجار الأسمنت من أكثر أعمال أحمد عبد المعطي حجازي تعبيرًا عن التوتر الحضري والاغتراب الإنساني في المدينة الحديثة. يصدر الديوان في سياق ثقافي واجتماعي يتسم بتسارع التحول العمراني، وتراجع القيم الإنسانية، مما يجعل المدينة رمزًا للتشيؤ، والاختناق، والانفصال عن الطبيعة والذات.
2. البنية الموضوعية
يتوزع الديوان بين قصائد تصور المدينة بوصفها غابة من الأسمنت، وأخرى ترثي الطبيعة المفقودة، والدفء الإنساني، والهوية التي تتآكل تحت ضغط الحداثة. تتكرر مفردات مثل “الأسمنت”، “الشارع”، “الضوء المسموم”، “الأشجار التي لا تورق”، وكلها تشير إلى عالم صناعي قاسٍ، يفتقر إلى الحياة.
يقول حجازي: “أشجارنا لا تورق.. لأنها من الأسمنت” هذه العبارة تختزل التناقض بين الشكل والمضمون، بين الحياة والموت، وتُجسد رؤية نقدية للمدينة ككائن معادٍ للإنسان.
3. البنية الفنية والجمالية
• اللغة الشعرية: تتسم بالحدة والاحتجاج، وتستخدم تراكيب صادمة مثل “الشارع الذي يبتلعنا”، و”الضوء الذي يجرح”، مما يخلق توترًا بين الجمالي والسياسي.
• الإيقاع: يعتمد على التفعيلة الحرة، لكنه يتجه نحو النثر الشعري في بعض المقاطع، مما يمنح النصوص طابعًا احتجاجيًا مباشرًا.
• الصور الشعرية: تتجه نحو الواقعية الرمزية، حيث تتحول عناصر المدينة إلى رموز للاغتراب، مثل “النافذة المغلقة”، و”العمارة التي لا تنام”.
4. الرموز والدلالات
• الأسمنت: يرمز إلى التشيؤ، إلى فقدان الحياة، إلى الانفصال عن الطبيعة.
• الأشجار: ترمز إلى الحياة، النمو، الجذور، لكنها هنا تتحول إلى أشجار ميتة، مما يعكس اختناق الإنسان في المدينة.
• المدينة: تتحول إلى فضاء عدائي، لا يحتضن الإنسان بل يطرده، مما يمنح الديوان بعدًا وجوديًا واجتماعيًا.
5. الأثر الثقافي والفكري
• فكريًا: يطرح الديوان أسئلة حول العلاقة بين الإنسان والمكان، بين الحداثة والهوية، ويقارب مفاهيم الاغتراب كما صاغها ماركس وسارتر.
• أدبيًا: يمثل تطورًا في شعر المدينة، ويقارب شعراء عالميين مثل إليوت وبريشت في نقدهم الحضري، لكنه يحتفظ بخصوصيته العربية.
• ثقافيًا وسياسيًا: ينتقد الديوان السياسات العمرانية، والاغتراب الطبقي، والتشيؤ الثقافي، مما يمنحه بعدًا اجتماعيًا واضحًا، ويجعل من الشاعر صوتًا احتجاجيًا في وجه التحول القاسي.
يمثل ديوان أشجار الأسمنت ذروة التحول في تجربة حجازي، حيث ينتقل من التأمل والقلق الداخلي إلى الاحتجاج الاجتماعي. إنه ديوان عن المدينة التي تبتلع الإنسان، وعن الأشجار التي لا تورق، وعن الحاجة إلى استعادة العلاقة بين الإنسان والطبيعة، بين الشعر والحياة.
الخاتمة: الشعر بوصفه مرآة لتحولات الذات والواقع
تكشف الدراسة المقارنة لدواوين أحمد عبد المعطي حجازي الثلاثة – مرثية للعمر الجميل، كائنات مملكة الليل، وأشجار الأسمنت – عن تجربة شعرية متكاملة، تتسم بالتحول المستمر، والقدرة على التعبير عن الذات في علاقتها بالزمن، والواقع، والمجتمع. فالشاعر لا يكتفي بتأمل العمر، أو استكشاف الهواجس، أو نقد المدينة، بل ينسج من هذه المحاور خطابًا شعريًا يعكس قلق المرحلة، ويعيد الاعتبار للإنسان في مواجهة التشيؤ والاغتراب.
أولًا: النتائج الأساسية
• تحول الرؤية الشعرية: ينتقل حجازي من الحنين الوجودي في مرثية للعمر الجميل، إلى التوتر النفسي في كائنات مملكة الليل، ثم إلى الاحتجاج الاجتماعي في أشجار الأسمنت، مما يعكس تطورًا في الوعي الشعري.
• تنوع الأساليب الفنية: تتنوع البنية الشعرية بين التفعيلة، النثر الشعري، والرمزية التعبيرية، مما يمنح النصوص طابعًا جماليًا متجددًا.
• الوظيفة الثقافية للنص: لا يكتفي الشعر بوصفه تعبيرًا ذاتيًا، بل يتحول إلى أداة نقد ثقافي، ومقاومة رمزية، واستعادة للهوية الإنسانية.
ثانيًا: التوصيات البحثية والثقافية
• إعادة قراءة شعر حجازي في ضوء التحولات الراهنة، وربطه بالحوار الثقافي العالمي، خاصة في مجالات الشعر الحضري، والقلق الوجودي، والنقد الاجتماعي.
• دمج شعر حجازي في المناهج الجامعية بوصفه نموذجًا للشعر الذي يجمع بين الجمالية والالتزام، ويعكس تطورًا في اللغة والرؤية.
• تشجيع الدراسات المقارنة بين شعر حجازي وشعراء عالميين مثل ت. س. إليوت، نيرودا، وبريشت، لإبراز البعد الكوني في تجربته.
تجليات الاغتراب والمقاومة: قراءة نقدية في ديواني أحمد عبد المعطي حجازي
تحليل أدبي نقدي موسع لديواني “مدينة بلا قلب” و”أوراس”
يُعد الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي أحد أبرز رواد الشعر العربي الحديث، الذي ارتبط اسمه بتحولات القصيدة العربية في منتصف القرن العشرين. تمثل تجربته الشعرية نقلة نوعية في تعامل الشعراء العرب مع القضايا الوجودية والاجتماعية والسياسية، من خلال مزج الالتزام الأخلاقي بالتجريب الفني. يأتي هذا التحليل لقراءة ديوانين بارزين في مشروع حجازي الشعري، هما “مدينة بلا قلب” و”أوراس”، اللذان يمثلان وجهين متكاملين لرؤيته الفنية والفكرية.
أولاً: ديوان “مدينة بلا قلب” – تفكيك الاغتراب والسلطة
التجربة الشعرية والبنية الفنية
يتميز ديوان “مدينة بلا قلب” بكونه وثيقة شعرية تجسد لحظة انكسار في الوعي العربي المعاصر، خاصة بعد نكسة 1967. تعتمد القصائد في هذا الديوان على:
1. الانزياح اللغوي والرمزية الكثيفة: حيث تتحول المدينة إلى كائن رمزي يجسد السلطة والاغتراب، كما في قوله: “المدينة التي لا تنام، لا تحلم، لا تبكي”. هذه الثلاثية تُدين المدينة بوصفها كياناً منزوع العاطفة والإنسانية.
2. الفضاء المغلق: تتحرك القصائد داخل فضاءات مغلقة (شوارع ضيقة، غرف خانقة، نوافذ مغلقة) تُحاكي المدينة كسجن رمزي، كما في وصف الجدران التي “لا تُحاصر الجسد فقط، بل تُحاصر اللغة والذاكرة”.
3. التفعيلة المتحررة: يستخدم حجازي التفعيلة بشكل غير منتظم، مما يُحاكي اضطراب النفس في مواجهة المدينة المنفية، مع الحفاظ على الموسيقى الداخلية للقصيدة.
الأبعاد الفكرية والسياسية
• تفكيك السلطة: يُدين الديوان السلطة ليس بشكل مباشر، بل من خلال تفكيك بنيتها الرمزية، حيث تصبح المدينة استعارة للمنظومة القمعية التي تفرغ الإنسان من إنسانيته.
• الذات المنفية: يقدم حجازي الذات الشاعرة بوصفها كائناً منفياً يبحث عن قلبه في مدينة فقدت روحها، مما يطرح سؤال الهوية في ظل الحداثة المبتورة.
• المقاومة الرمزية: تتحول القصيدة إلى فضاء بديل للمقاومة، حيث تستعيد الذات صوتها في مدينة لا تسمح بالحلم أو البكاء.
التأثير الفكري والأدبي
أسهم “مدينة بلا قلب” في تشكيل وعي نقدي لدى جيل من القراء والدارسين، حيث يُدرس اليوم في أقسام الأدب العربي كنموذج للعلاقة بين الشعر والسلطة، وبين اللغة والذاكرة. كما يمثل الديوان وثيقة ثقافية لفهم التحولات النفسية والاجتماعية في العالم العربي بعد النكسة.
ثانياً: ديوان “أوراس” – ملحمة الثورة والهوية
التجربة الشعرية والبنية الفنية
يمثل ديوان “أوراس” محاولة جريئة لربط الشعر بالواقع السياسي والثوري، من خلال توظيف الشعر الحر في خدمة قضية الثورة الجزائرية والتحرر العربي. يتميز الديوان بما يلي:
1. الرموز الملحمية: يستخدم حجازي رموزاً مثل “الجبل”، “الفارس”، “النسر”، و”النار” للتعبير عن المقاومة والصمود، كما في تصويره لشخصية الفارس التي ترمز للبطل الثوري.
2. المزج بين الغنائية والملحمية: يجمع الديوان بين العاطفة الجياشة وروح الملحمة، مما يخلق إيقاعاً شعرياً مؤثراً يعكس حرارة التجربة الجماعية.
3. التراث والحداثة: يمزج حجازي بين الأصالة العربية وهموم العصر، مستلهماً التراث مع تحديث الرؤية والشكل.
الأبعاد الفكرية والسياسية
• الالتزام القومي: يتبنى الديوان قضية التحرر العربي من خلال التركيز على الثورة الجزائرية كنموذج للمقاومة والعزة العربية.
• قيم الحرية والكرامة: يطرح الديوان قيماً إنسانية عليا كالحرية والكرامة والتضحية، من خلال شخصيات رمزية مثل الشهيد والفارس.
• الوحدة العربية: يذكر القارئ بوحدة المصير العربي من المحيط إلى الخليج، في سياق ثوري تحرري.
التأثير الثقافي والسياسي
حظي “أوراس” بصدى واسع في الأوساط الثقافية العربية في فترة الخمسينيات والستينيات، حيث مثل صوتاً للثورات التحررية. ساهم الديوان في تعزيز الروح الوطنية والقومية، وأثر في وعي جيل من الشباب العربي، كما حفز النقاش حول دور المثقف في قضايا الأمة.
مقارنة نقدية بين الديوانين
1. الرؤية الفنية: بينما يركز “مدينة بلا قلب” على الداخل الإنساني والاغتراب، يتجه “أوراس” نحو الخارج الثوري والجماعي. الأول يعتمد على التكثيف الرمزي، والثاني على البعد الملحمي.
2. اللغة الشعرية: لغة “مدينة بلا قلب” متوترة ومشتتة تعكس الاضطراب الوجودي، بينما لغة “أوراس” مفعمة بالحماسة والتدفق العاطفي.
3. وظيفة الشعر: في “مدينة بلا قلب” تكون الوظيفة تفكيكية نقدية، بينما في “أوراس” تكون تحريضية ملحمية.
يمثل ديوانا “مدينة بلا قلب” و”أوراس” وجهين متكاملين في مشروع أحمد عبد المعطي حجازي الشعري. فبينما يجسد الأول مرحلة التفكيك والنقد في ظل الانكسار الجماعي، يمثل الثاني مرحلة المقاومة والأمل في زمن الثورات. عبر الديوانين، يؤكد حجازي على دور الشعر ليس كمجرد تعبير جمالي، بل كأداة لفهم الواقع وتغييره، وكممارسة أخلاقية وجودية.
لا يزال الديوانان يمثلان مرجعين أساسيين في الدراسات الأدبية والنقدية، حيث يقدمان نموذجاً للشعر الملتزم الذي يجمع بين العمق الفني والرؤية الفكرية، ويظلان مصدر إلهام للأجيال الجديدة من القراء والدارسين، شاهدان على قدرة الشعر العربي على التعبير عن هموم الإنسان والمجتمع في أعمق تجلياتها.
الكلمات المفتاحية: أحمد عبد المعطي حجازي، الشعر العربي الحديث، حركة التجديد، التحديث الشعري، الثقافة العربية، الخطاب النقدي، الالتزام السياسي.
المراجع :
• الأعمال الكاملة لأحمد عبد المعطي حجازي.
• حجازي، أ. ع. (1971). محمد وهؤلاء. القاهرة: دار الهلال.
• حجازي، أ. ع. (1979). عروبة مصر. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
• حجازي، أ. ع. (1988). الشعر رفيقي. القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة.
• فضل، ص. (1992). بلاغة الخطاب وعلم النص. القاهرة: الهيئة العامة للكتاب.
• بدوي، أ. (1985). الشعر العربي الحديث. القاهرة: دار المعارف.
• عطية، ر. (2022). الحداثة الشعرية عند أحمد عبد المعطي حجازي.
• مجلة الثقافة الجديدة، 45(3)، 112–130.
كاتب الدراسة:
السفير والممثل السابق لكوسوفا لدى بعض الدول العربية
عضو مجمع اللغة العربية – مراسل في مصر
عضو اتحاد الكتاب في كوسوفا ومصر
E-mail: [email protected]