ندوة:”رؤية الإمام أحمد الطيب: التجديد الفقهي وتعزيز التعايش السلمي”. تؤكد الحاجة إلى إعادة الاعتبار لفكر الإمام أحمد الطيب، ليس فقط بوصفه شيخًا للأزهر، بل بوصفه ضميرًا أخلاقيًا عالميًا للإسلام المعاصر
إشراف مباشر من الدكتور محمد بشاري، الأمين العام للمجلس العالمى للمجتمعات المسلمة

كتب….نزار سلامة
أكدت ندوة:”رؤية الإمام أحمد الطيب: التجديد الفقهي وتعزيز التعايش السلمي”. الحاجة إلى إعادة الاعتبار لفكر الإمام أحمد الطيب، ليس فقط بوصفه شيخًا للأزهر، بل بوصفه ضميرًا أخلاقيًا عالميًا للإسلام المعاصر، تمثل تحدّيًا للمؤسسات الدينية والجامعية، ومسؤولية فكرية ينبغي البناء عليها وتوسيعها، من أجل مستقبل يكون فيه الدين قوة بناء لا عامل انقسام، ومنبر هداية لا مصدر توتر.
كما أكدت الندوة التى أقيمت بمعرض أبوظبي الدولي للكتاب – الدورة 34
مركز أبوظبي الوطني للمعارض (أدنيك) – أبوظبي، الإمارات العربية المتحدة ونظمها المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة برئاسة معالي الدكتور علي النعيمي
وبإشراف مباشر من سعادة الدكتور محمد بشاري، الأمين العام للمجلس….ان .الإمام الطيب مجددٌ للفقه، وضميرٌ للأمة، ومهندسٌ للتعايش: رؤية علمية في زمن التحولات
شارك في الندوة:
• الدكتور محمد بشاري – الأمين العام للمجلس العالمي للمجتمعات المسلمة – مدير الجلسة ومقدّمها
• الدكتور عبد الله مبروك النجار – عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف
• الدكتور رضوان السيد – عميد كلية الدراسات العليا والبحث العلمي بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية
وتركزت محاور الندوة على ….
1. المداخلة الأولى: تقديم الدكتور محمد بشاري
تناول فيه الأسس الفكرية لمشروع الإمام الطيب، مؤكدًا أنه أعاد للاجتهاد شرعيته، وللتعايش روحه الأخلاقية، وأنه يمثّل نموذجًا متجددًا للعالم المسلم المنفتح والمتمسك بالأصول.
2. المداخلة الثانية: رؤية الإمام الطيب في تعزيز التعايش السلمي والحوار بين الأديان
مداخلة الدكتور عبد الله مبروك النجار
تناول فيها رؤية الإمام الطيب للتعايش بوصفها مقصدًا شرعيًا لا خطابًا سياسيًا، واستعرض نماذج من اجتهاداته ومبادراته المؤسسية، وعلى رأسها وثيقة الأخوة الإنسانية.
3. المداخلة الثالثة: القيم الأخلاقية والاجتهادية في فكر الإمام الطيب..
وفيما يلى تقرير مفصل عن فاعليات الندوة لأهميتها كمرجع دينى فكرى ثقافى لفكر فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر
مداخلة الدكتور رضوان السيد
قدّم خلالها تحليلاً معمقًا للبنية المقاصدية والأخلاقية في خطاب الإمام، وأبرز مسعاه لتأسيس اجتهاد مؤسسي يعيد الاعتبار للعقل والمقصد، ويحرر الدين من التوظيف السياسي.
الديباجة:
يُعَدّ الإمام الأكبر أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، واحدًا من أبرز الرموز العلمية والدينية في العالم الإسلامي المعاصر، لما يجمعه من عمق معرفي رصين في علوم الشريعة والفلسفة، وانخراط حيوي في قضايا الإنسان المعاصر، من خلال خطابٍ ديني متوازن يجمع بين مقاصد الشريعةوالكرامة الإنسانية. لقد شكّل حضوره الفكري والفقهي في العقود الأخيرة جسرًا بين الموروث والاجتهاد، وبين الأصالة والانفتاح، بين تراث الأزهر الشريف كمؤسسة علمية عريقة، ومتطلبات العصر بما فيه من تحديات ثقافية، وقيمية، واجتماعية، بل وسياسية.
إن الدعوة إلى التجديد الفقهي ليست أمرًا طارئًا في فكر الإمام الطيب، بل هي خيار منهجي راسخ، ينطلق من قناعة بأن الفقه الإسلامي، كأداة لفهم النص وتنزيله على الواقع، يجب أن يظل حيًا متجددًا، متفاعلًا مع الوقائع والمستجدات، لا جامدًا على صيغٍ تاريخية وفتاوى تراثية لم تعد تفي بمتطلبات العصر. ومن هذا المنطلق، جاءت معظم مداخلات الإمام الطيب وتصريحاته ومبادراته، لتؤكد على ضرورة إحياء وظيفة الاجتهاد في الحياة الإسلامية المعاصرة، وعلى أهمية تجاوز الثنائية السطحية بين التقليد والحداثة.
وفي المقابل، لم يكن همّ الإمام الطيب فقهياً محضًا، بل اتسع مشروعه ليطال الجوانب الإنسانية والكونية، حيث برز كأحد أبرز دعاة السلام العالمي والحوار بين الأديان، مؤمنًا بأن الإسلام ليس فقط دينًا للعبادات والحدود، بل أيضًا رسالة أخلاقية كونية، تسعى إلى تحقيق السلم، والرحمة، والتعايش، والتعارف بين البشر. وقد تجلت هذه الرؤية في وثيقة “الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك” التي وُقّعت في أبوظبي عام 2019 بالشراكة مع البابا فرنسيس، كأحد أهم الوثائق الدينية العالمية في العقدين الأخيرين.
وانطلاقًا من هذه الرؤية الشمولية، نظم المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة هذه الندوة الفكرية بعنوان “رؤية الإمام أحمد الطيب: التجديد الفقهي وتعزيز التعايش السلمي”، بغرض تقديم قراءة معمقة، علمية وإنسانية، لهذا المشروع الفكري والروحي الذي يجمع بين التكوين الأزهري المتين والهمّ العالمي الراهن. فقد استهدف اللقاء إبراز الجوانب الاجتهادية والتأصيلية في فكر الإمام، كما سلّط الضوء على جهوده العملية لتعزيز التفاهم بين الثقافات، ونبذ التطرف، وإرساء خطاب ديني متسامح وواعي بالتحولات الكبرى..
لقد شكّلت هذه الندوة منصةً للتحاور حول عمق هذه الرؤية ومآلاتها، عبر ثلاث محاور رئيسية:
1. رؤية الإمام الطيب لتعزيز التعايش السلمي والحوار بين الأديان.
2. القيم الأخلاقية في فكر الإمام من النظرية إلى التطبيق.
3. دور المؤسسات في تجديد الاجتهاد ضمن رؤية الإمام الطيب .
وقد أدار الجلسة سعادة الدكتور محمد بشاري، الأمين العام للمجلس، بمشاركة علمية مميزة من الاستاد الدكتور عبد الله مبروك النجار، عضو مجمع البحوث الإسلامية، الأزهر الشريف و الدكتور رضوان السيد، عميد كلية الدراسات العليا و البحث العلمي بجامعة محمد بن زايد للعلوم الانسانية، لتكون بذلك هذه الندوة محطةً فكريةً في مسار استئناف الاجتهاد المؤسسي، وتوسيع دوائر الحوار، والتأكيد على أن تجديد الفقه اليوم هو تجديد لرسالة الإسلام في الوجود.
الدكتور محمد بشاري:
“الإمام أحمد الطيب لا يُجدد الفقه فحسب، بل يُعيد تشكيل دور العالم المسلم في بناء السلام العالمي من منطلق أزهري أصيل ومسؤولية إنسانية شاملة.”
في كلمته الافتتاحية، قدّم الدكتور محمد بشاري، الأمين العام للمجلس العالمي للمجتمعات المسلمة، مداخلة رفيعة المستوى خلال الندوة الفكرية التي نظمها المجلس في إطار الدورة الرابعة والثلاثين لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب، تحت عنوان: “رؤية الإمام أحمد الطيب: التجديد الفقهي وتعزيز التعايش السلمي”.
استهل الدكتور بشاري كلمته بالتأكيد على أن الحديث عن الإمام أحمد الطيب هو حديث عن تجربة علمية وإنسانية متكاملة، جمعت بين عمق التكوين الأزهري، ووضوح الرؤية الفكرية، وجرأة الموقف الأخلاقي. وهو مشروع لم يظل في نطاق التنظير أو الخطابة، بل تمثّل في ممارسات مؤسسية، ومبادرات دولية، ومواقف اجتهادية أثبتت أن الاجتهاد لا يزال ممكنًا، وأن التعايش ليس خيارًا ظرفيًا، بل مقصدًا من مقاصد الدين.
وأشار إلى أن الإمام الطيب استطاع أن يُنقل الأزهر من موقع الدفاع إلى موقع الفعل الحضاري، من خلال اجتهاد مقاصدي واعٍ، لا ينفصل عن النص، ولا ينغلق على التراث، بل يربط بين الأصالة والتحديث، بين المقاصد والمصالح، وبين النصوص والسياقات.
وفي هذا السياق، شدّد الدكتور بشاري على أن الإمام الطيب أعاد للاجتهاد مكانته المؤسسية، من خلال الدعوة إلى تفعيل المجامع الفقهية، وتوسيع دوائر الرأي الاجتهادي الجماعي، وجعل من هذه المؤسسات أدوات لتقديم فقه يعالج قضايا العصر مثل المواطنة، والمرأة، والمناخ، والعيش المشترك، لا بوصفها مستجدات طارئة، بل بوصفها مجالات اختبار حقيقي لمرونة الشريعة وراهنيتها..
أما في محور التعايش، فقد أبرز الدكتور بشاري أن الإمام الطيب تجاوز منطق التهدئة أو المجاملة، ليؤسس لما وصفه بـ”الفقه الإنساني”، الذي يجد تجلياته الأسمى في وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقّعها مع البابا فرنسيس في أبوظبي عام 2019. لقد كانت هذه الوثيقة ـ بحسب تعبيره ـ إعلانًا عالميًا لقيم الإسلام الحقيقية: الرحمة، والكرامة، والتعارف، والعدل، في مقابل موجات الانغلاق والكراهية.
كما نوّه بأن رؤية الإمام الطيب لم تكن ابنة لحظة أو استجابة ظرفية، بل ثمرة مسار تربوي وعلمي طويل نشأ في بيئة مصرية أزهرية مشبعة بروح التعدد والتسامح، وتشكّل وعيه في محيط اجتماعي متنوّع، حمله لاحقًا إلى فضاء عالمي دون أن يتخلى عن جذوره.
وأضاف الدكتور بشاري أن الإمام الطيب يقدم للعالم نموذجًا فريدًا لـ”العالِم المسلم” الذي يجمع بين الثبات على المبادئ والمرونة في الوسائل، ويُوازن بين الهوية والانفتاح، بين وظيفة الفقيه ومهام المفكر، وبين الرؤية الكلية والمسؤولية المؤسسية.
واختتم كلمته بالتأكيد على أن هذه الندوة تأتي في سياق إبراز مدرسة تجديدية أصيلة، يُمثّلها الإمام الطيب بامتياز، مدرسة تُعيد للاجتهاد شرعيته، وللتعايش روحه الأخلاقية، وللدين دوره في بناء الإنسان والعالم. كما أكد أن استلهام هذه الرؤية ضرورة فكرية وعملية لكل من يسعى إلى أن يظل الإسلام دينًا حيًّا، فاعلًا، منفتحًا، ونافعًا للبشرية جمعاء.
المداخلة الثانية:
رؤية الإمام أحمد الطيب في تعزيز التعايش السلمي والحوار بين الأديان
الدكتور عبد الله مبروك النجار:
“الإمام أحمد الطيب هو المجدد الحقيقي للفقه الإسلامي في زماننا، لأنه أعاد له روحه الأخلاقية ومقاصده الحضارية، دون أن يفقده أصالته أو هيبته.”
يمثل الإمام الأكبر أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، اليوم أحد أبرز دعاة التعايش والحوار الديني في العالم، وقد استطاع من خلال مشروعه العلمي والدعوي أن يُعيد تشكيل ملامح الخطاب الإسلامي ليكون أكثر انفتاحًا، واتساقًا مع التحولات الإنسانية الكبرى، دون أن يتخلى عن ثوابته المرجعية أو مقاصده الأصيلة.
وقد أكد المشاركون في ندوة المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة، وفي مقدمتهم الأستاذ الدكتور عبد الله مبروك النجار، أن الإمام الطيب لا يُقدّم التعايش كخطاب توافقي ظرفي، بل كمقصد شرعي أصيل، نابع من فهم قرآني عميق، يستند إلى قوله تعالى: “وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا”. فالتعدد والاختلاف عند الإمام ليس مشكلة ينبغي تجاوزها، بل هو سُنّة إلهية تستوجب الاعتراف المتبادل، لا مجرد التسامح المشروط.
وفي هذا السياق، أبرز الدكتور النجار أن رؤية الإمام الطيب لا تنطلق من مراعاة اعتبارات سياسية أو دبلوماسية، بل من وعي علمي مقاصدي، يُدرك أن الإسلام دين يقدّم نفسه للعالم على أساس الرحمة والعدل، لا على أساس الغلبة أو الاصطفاء. وقد تمثلت هذه الرؤية في مواقف متعددة، كان أبرزها المشاركة التاريخية في توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية مع البابا فرنسيس في أبوظبي سنة 2019، والتي اعتُبرت تحولًا نوعيًا في مسار الحوار الإسلامي المسيحي، وانتقالًا من منطق التسامح إلى منهج الشراكة الحضارية.
ولم يغفل الدكتور النجار التوقف عند البُعد المؤسسي لهذا الخطاب، حيث أشار إلى أن الإمام الطيب استطاع أن يعيد للأزهر الشريف مكانته العالمية، بوصفه منبرًا للإصلاح الديني والحوار العالمي، وذلك من خلال تطوير المناهج، وتحديث آليات الاجتهاد، والانفتاح على الجامعات والمنصات الدولية، ومأسسة التواصل مع الأديان والثقافات المختلفة.
كما استعرض النجار بعض النماذج الفقهية التي تعكس الاجتهاد المقاصدي الواعي للإمام الطيب، سواء في قضايا المرأة، أو البيئة، أو العلاقات الاجتماعية، مؤكّدًا أن الطيب تجاوز الفتوى التقليدية، إلى بناء منظومة فكرية متكاملة، تستلهم التراث ولا تنحبس فيه، وتنظر إلى الواقع بعين المقاصد لا الحرف.
ورأى الدكتور النجار أن ما يُميّز الإمام الطيب هو قدرته على الحفاظ على التوازن بين الانتماء الأصيل والانفتاح الواعي، بين المرجعية الدينية والانخراط العالمي، وهو ما جعل من خطابه نموذجًا فريدًا للإسلام الذي يستطيع أن يحيا في العصر لا على هامشه، ويخاطب البشرية بلغتها دون أن يتنازل عن رسالته.
واختُتم المحور بالتأكيد على أن الإمام الطيب يجسّد اليوم مدرسة فكرية وروحية متكاملة، تستحق أن تُدرس وتُفعّل، لأنها تُعيد للدين دوره الطبيعي في صناعة السلم الأهلي، والحوار الحضاري، وبناء الإنسان.
المداخلة الثالثة:
القيم الأخلاقية والاجتهادية في فكر الإمام أحمد الطيب
الدكتور رضوان السيد:
“الإمام الطيب لا يُجدد الفقه فحسب، بل يُجدد صورة العالم المسلم، ليكون ضميرًا أخلاقيًا للأمة، وصوتًا عقلانيًا في زمن التوحش الثقافي والديني.”
جاءت مداخلة الأستاذ الدكتور رضوان السيد، عميد كلية الدراسات العليا والبحث العلمي بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، لتسبر أغوار البنية القيمية والوظيفة الاجتهادية في مشروع الإمام الأكبر أحمد الطيب، حيث تناول بعمق العلاقة الوثيقة بين أخلاقيات الشريعة، وضرورات تجديد الفكر الديني، في ضوء التحولات الكبرى التي يشهدها العالم المعاصر.
استهل الدكتور السيد كلمته بقراءة لمسار الإمام الطيب، معتبرًا أن هذا المسار لم يكن مجرد انتقال من التدريس إلى المشيخة، بل تطور معرفي وروحي وفلسفي عميق، راكمته التجربة والتأمل والممارسة، ليتحول الإمام إلى فاعل محوري في صياغة خطاب إسلامي عقلاني جامع، يُزاوج بين الوفاء للتراث والانفتاح على مقتضيات الواقع.
وأوضح السيد أن فكر الإمام الطيب يتأسس على الرؤية المقاصدية للشريعة، التي تجعل من الكرامة والعدل والرحمة محاور مركزية لأي اجتهاد معاصر، مشيرًا إلى أن الإمام يرفض اختزال الدين في الشعائر أو الفتاوى التقليدية، ويرى في الدين منظومة متكاملة من القيم والتوجيهات الأخلاقية، ينبغي أن تُفعَّل في الواقع، لا أن تبقى حبيسة الخطاب أو المؤسسات المغلقة.
وسلط السيد الضوء على الاجتهاد المؤسسي كأحد أبرز أطروحات الإمام الطيب، مؤكدًا أن الإمام لا يؤمن باجتهاد فردي معزول، بل يدعو إلى تكوين دوائر علمية جماعية، تستوعب تعدد التخصصات، وتستند إلى العلوم العقلية والنقلية والإنسانية، ليكون الاجتهاد فعلًا جماعيًا مسؤولًا، يُراعي تعقّد المسائل وتداخل الأنساق المعرفية الحديثة.
وفي إطار التعايش الإنساني، توقف الدكتور السيد عند وثيقة الأخوة الإنسانية الموقّعة في أبوظبي، كاشفًا بعض تفاصيلها الرمزية، منها اقتراح البابا فرنسيس تسميتها “وثيقة المحبة”، غير أن الإمام الطيب أصرّ على تسمية “الأخوة”، تعبيرًا عن العمق القرآني والمقصد الإنساني المشترك، الذي يتجاوز العاطفة الفردية إلى المسؤولية المتبادلة. ومع ذلك، لم يُغفل الإمام ذكر “المحبة” مرتين في كلمته، في إشارة إلى تكامل القيم بدل تناقضها.
وأكد الدكتور السيد أن الإمام الطيب يشكل اليوم نموذجًا متميزًا للعالم المسلم الذي يحترم المرجعية ولا يُقيّد العقل، ويحمل الدين إلى العالم بكرامة لا بتعصب، وبشراكة لا بصدام. كما أشار إلى وثائق الأزهر الأخيرة، كمثال على نضج هذا المشروع، لاسيما “إعلان الأزهر للمواطنة”، الذي أسس لرؤية جديدة تُنهي ثنائية “الذمي والمواطن”، وتبني على مفهوم العيش الوطني المشترك في ظل المساواة والاعتراف.
واختتم السيد مداخلته بالتأكيد على أن الإمام الطيب لا يقدّم مجرد خطاب وعظي، بل مشروع إصلاح ديني قائم على تجديد أدوات الفهم ومقاصد التطبيق، مضيفًا أن هذا المشروع هو ما يحتاجه العالم الإسلامي اليوم، لتجاوز الأزمات الفكرية والانحباسات الطائفية، وبناء أفق ديني أكثر إنسانية وعدالة وانفتاحًا.
خاتمة الندوة:
لقد شكلت هذه الندوة العلمية والفكرية التي نظمها المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة، مناسبة نادرة لإعادة التفكير في تجربة الإمام الأكبر أحمد الطيب بوصفها واحدة من أكثر التجارب الإسلامية المعاصرة نضجًا واتساقًا بين الفكرة والممارسة، بين المرجعية والأثر، وبين التدين والاجتماع الإنساني. فلم تكن كلمات المشاركين مجرد استعراض لأفكار متناثرة، بل كانت بمثابة قراءة نقدية بنّاءة في معالم مشروع متكامل، تتقاطع فيه الفلسفة مع الفقه، والهوية مع الحوار، والمقصد مع الواقع.
إن استعادة موقع “العالم المسلم” بوصفه فاعلًا في الشأن العام، ومؤسسًا لرؤية للعيش المشترك، هي من بين الملامح الأهم التي نجح الإمام الطيب في إحيائها. فقد أعاد الاعتبار لمفهوم الاجتهاد، لا بوصفه اجتهادًا فرديًا معزولًا، بل كفعل جماعي مؤسسي، يجب أن يُمارَس من خلال مؤسسات علمية موثوقة تمتلك أدوات النظر والتمييز، وتستند إلى مقاصد الشريعة ومصالح الناس. وهو بذلك قدّم نموذجًا مغايرًا لمقاربات منغلقة لا تزال تُقصر الدين على الحلال والحرام، وتُقصي الإنسان من دائرة الخطاب.
لقد أظهرت المداخلات الفكرية في الندوة أن تجديد الفقه في فكر الإمام الطيب لا يعني استبدال النص أو تعطيل المرجعية، بل يعني تحرير العقل المسلم من إسار التكرار، ومن الانغلاق على فهوم لم تعد قادرة على الإقناع أو الإنتاج. إنه تجديد يربط بين جوهر الشريعة وروح العصر، ويُحسن الإصغاء لنبض الواقع دون التفريط في المبادئ. ولهذا كانت القيم الأخلاقية عند الإمام الطيب ليست “مكمّلات اجتهادية”، بل هي “بنية تأويلية” و”ميزان مرجعي” يحكم النظر، ويضبط الفتوى، ويهدي السلوك.
في الوقت نفسه، برز مشروع الإمام الطيب في بُعده العالمي، حيث لم يعد الأزهر مجرد مؤسسة تعليمية داخل حدود مصر، بل غدا منصة عالمية للحوار بين الأديان، ونشر ثقافة السلام، ومواجهة خطاب التطرف. لقد استطاع الإمام الطيب أن يُدخل الإسلام في دائرة الشراكة الكونية، دون أن يُفرّط في خصوصيته، ودون أن ينغلق على ذاته. وبهذا المعنى، فقد أعاد التوازن إلى المعادلة الصعبة بين الهوية والانفتاح، وجعل من “العيش المشترك” خيارًا دينيًا لا مجرد ضرورات سياسية.
إن الرسالة التي يمكن أن نستخلصها من هذه الندوة أن المشروع التجديدي الذي يحمله الإمام الطيب ليس لحظة طارئة، بل هو رؤية ممتدة، مؤسسة على العلم، ومُفعمة بالحكمة، ومشحونة بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الأجيال. إنها دعوة لكل المؤسسات الدينية والفكرية في العالم الإسلامي إلى أن تتبنى منهج الاجتهاد المقاصدي، والحوار الإنساني، والخطاب الرشيد، بوصفها مفاتيح النهضة والتوازن والسلام.
وفي النهاية، فإن الحاجة إلى إعادة الاعتبار لفكر الإمام أحمد الطيب، ليس فقط بوصفه شيخًا للأزهر، بل بوصفه ضميرًا أخلاقيًا عالميًا للإسلام المعاصر، تمثل تحدّيًا للمؤسسات الدينية والجامعية، ومسؤولية فكرية ينبغي البناء عليها وتوسيعها، من أجل مستقبل يكون فيه الدين قوة بناء لا عامل انقسام، ومنبر هداية لا مصدر توتر.